التعليم و"الهوية الوطنية"
د.محمود باكير
تعدُّ "الهوية الوطنية" من أكثر القضايا أهمية في سلامة بناء الدول، وفي الحفاظ على الأمن الوطني، وتحقيق العدالة الاجتماعية، فهي مصدر للوعي بالذات، وأداة لتوحيد الجهود، وباعث للتعاطف الوطني، تعزّز النهوض السياسي. ومن فوائدها الجمّة على المستوى الداخلي، أنه عندما تخاطب الدولة الجمهور فإنها تخاطب هويتهم الوطنية (الجمعية)، وليس فرديتهم التي تختلف من شخص إلى آخر. وما يبرز أهميتها أنه قلّما نجد دولاً لم تعان، في مرحلة ما، من توتّرات ناجمة عن مسائل الهوية. ومع ذلك فإنها من أقل القضايا العامّة وضوحاً نتيجة وضعها المعنوي المجرّد. لذلك لا تظهر أهميتها للعيان إلا بغيابها، أو باضطرابها. وحديثاً شرعت بعض الدول تعيرها الاهتمام اللازم، بما فيه إحداث وزارة خاصة بمسائلها. وتعدُّ من أفضل دول العالم في هذا المجال هو ما تتميّز به الدول الاسكندنافية من هويّة وطنية نقيّة من كلّ الشوائب. فقد صعدت هذه الدول من أسفل السلّم الاقتصادي الأوربي عام 1860 إلى أعلاه بحدود عام 1930. وقد كانت رافعة نهوضها أنهم صنعوا ما أصبح يُعرف باسم "النموذج التعليمي الاسكندنافي" الفريد من نوعه في العالم الذي جعلهم من أكثر شعوب الأرض رخاء وسعادة وانتماء وطنياً. وقد تصدّى لدراسة هذا النموذج، وأسباب نجاحه، عديد من الباحثين في العالم. وربما من أفضل ما نشر حول ذلك الكتاب الموسوم "سر الشمال" Nordic Secret The لمؤلفيه Thomas Bjorkman و Lene Rachl Anderson حيث يشرح الكتاب كيف اصطنعت هذه الدول نوعاً جديداً من النظام التربوي. ويكمن السر في نظرتها الخاصة لعملية التعليم، والمنظومة التعليمية التي صاغوها، حيث تؤكّد على أنه يجب أن يشمل هذا التعليم جميع شرائح المجتمع بما فيه الطبقات الشعبية. وأن يكون تعلّماً مدى الحياة. ويشير "كريستوفر آرندت برن" الذي كان أحد روّاد التربية الحديثة: "إن الفكرة الأساسية هي أن تخلق في عقل الطالب معنى أو مفهوماً للدوائر الأوسع للانتماء، وتوقاً عنده نحو مشاركة المسؤولية مع المجموع". وأهم ما يميّز منظومتهم أنها تبني شعباً يتحلّى بالوطنية، والمسؤولية، فضلاً عن اكتساب المعرفة، من خلال ما تزرعه منظومة القيم التي كانت ثمرة تلك الرؤية.
ومن أبرز تلك القيم روح الانتماء للوطن والأسرة، وتعزيز الثقة بين مكوّنات المجتمع. وقد أدركت نخبة تلك الدول، منذ القرن التاسع عشر، أهمية التعليم، ضمن "منظور" جديد مستحدث. ويعبّر عنه كلمة ألمانية استخدموها خصّيصاّ لذلك، وهي Bildung ليس لها مقابل في اللغة الانكليزية. ويعني هذا المصطلح (الذي تتقاطع عنده الفلسفة والتربية) العمل على إعادة صوغ شخصية الإنسان (عقله، وقلبه، وهويته) كاملة من النواحي الأخلاقية، والعاطفية، والفكرية، والمدنية. لذلك تشير هذه "المنظومة" إلى أنّ التعليم الذي يركّز على المعلومات فقط غير كاف في بناء الفرد أو الأمة. أي أن التعليم أحد أبعاد منظومتهم تلك، إضافة إلى أبعاد أخرى ترتبط ببعضها على نحو مركّب بمضمون فلسفي وتربوي عميقين. لذلك تُعَرّف منظومتهم على أنها: "طريقة مصمّمة لتغيير وسيلة "الإدراك" التي يرى بها الطالب العالم من حوله". فهي مبنية على نحو يساعد الدارس على فهم "الأنظمة المركّبة"، وأن يرى "العلاقات" بين ذاته والمجتمع، وبين العلاقات الاجتماعية في العائلة وفي المدينة أو البلدة التي يعيش فيها. كما يذكر مؤلفا الكتاب أنه لتطوير الولاء الوطني، وتعزيز التماسك الداخلي، فإنهم بحاجة إلى عالم داخلي عند الفرد يكون غنياً ورحباً. وهم بحاجة إلى تطوير معنى المسؤولية تجاه أنفسهم، وتجاه المجتمع. وهذا ما أصبح يسمّى في مصطلحات علم النفس الحديث، وفق ما يقوله المؤلفان، "ارتقاء الأنا" ego-development . ويعرّف هذا المصطلح بعض أدبيات علم النفس بأنه: "نمو الوعي لدى الطفل بذاته كشخص متميّز، له خصائص فعلية، وخصائص أخرى يتطلّع إلى أن تتوافر فيه". وهدفهم من ذلك أن يفكّر الإنسان، ويشعر، ويعمل، بطريقة مختلفة، ولكن، في الوقت ذاته، لا يريدون أن يمارسوا تسلّطاً على ماذا يجب أن يفكّر الناس، وكيف يجب أن يتصرّفوا. ويريدونهم أن يصوغوا حياتهم، وأن يشاركوا في صياغة مجتمعهم.
وغنيٌّ عن البيان أهمية "الإدراك" عند الإنسان، فمن المعروف "أن اِلأشياء توجد حينما تُدرك". فالمسألة برمّتها تتعلّق بالإدراك وطرقه. في حين أن بلدان "التصحّر" الوطني يكثر فيها الوعظ في التربية الوطنية الذي لا يجدي نفعاً. ولتوضيح أهمية طبيعة الإدراك عند الإنسان وعلاقته بالخيارات المختلفة نورد مثالاً على ذلك، على سبيل الذكر لا الحصر. فقد ورد في "موسوعة الفلسفة العربية" في مادة (تناه–لا تناه) أنه: "نلاحظ بصفة عامة أن التجريبيين يميلون إلى مفهوم النهائي، بينما يميل العقليون إلى مفهوم اللانهائي... وفي ميدان نظريات السياسة قد نجد أن أصحاب الميل إلى المفهوم النهائي يميلون إلى النظريات الاستبدادية وأشباهها، وأصحاب الميل إلى المفهوم اللانهائي يفضّلون النظريات ذات الطابع الديمقراطي". وللوقوف على أسباب ذلك، و"إدراك" كنه العلاقة بين أمرين يبدوان مختلفين، نشير إلى أن سبب هذا هو أن التجريبيين يبحثون عن نتائج ملموسة للتحقّق منها؛ والمنتهي، رياضياً، شيء "ملموس" ذهنياً، بمعنى أنه يمكن الوصول إليه، ولو نظرياً، لذلك ينزعون إليه. أي أن "العلاقة" التي تحكم هذين السياقين ذاتها. في حين أن العقليين يبحثون عن كلّ ما هو مثالي؛ وهذا لا يمكن بلوغه، لأنه لا يوجد شيء إلاّ وهناك شيء آخر أفضل منه. وهذا هو عين الفكرة الكامنة وراء اللامنتهي في الرياضيات، وهي أنه لا يوجد عدد إلاّ وثمّة عدد آخر أكبر منه. والربط بين النظريات الاستبدادية والمنتهي، أو الربط بين النظريات ذات الطابع الديمقراطي واللامنتهي، يشير إلى أن كلّاً منهما يحكمه "العلاقة" ذاتها. وعملية إدراك تلك "العلاقة" كمفهوم مجرّد تتطلّب قدراً من التجريد. لهذا فإنَّ الحالة الاسكندنافية في بناء الهويّة الوطنية تشير إلى أن بلوغ ذلك يتطلّب جهداً كبيراً، وعقولاً نيّرة ديدنها العلم.
هذا ومفهوم الهويّة ذو دلالة لغوية، وفلسفية، واجتماعية، وثقافية، وقد اكتسب كلّ تلك الدلالات خلال العقود الماضية بسبب أهميته. وبدأ استخدام مفهوم "الهوية"، بالمعنى المتداول حالياً، حوالي منتصف القرن العشرين. وقد صار له امتدادات عديدة وعميقة في بناء الشخصية الوطنية، وفي تكوين المناهج الدراسية في مراحل التعليم، وفي وسائل الإعلام. بل أضحى يدخل في جُلّ مسامات حياة الشعوب. وقد لا يكون من باب المبالغة أن نقول، ونحن نبحث عن جذور معظم الأزمات والاضطرابات التي تعانيها الدول، إن: " كلّ المؤشرات توصل إلى الهوية الوطنية". لأن كثيراً من الدول تعاني من أحد أشكال أزمات الهوية، ضمناً أو صراحة. ومن فوائدها على المستوى الداخلي، أنه عندما تخاطب الدولة الجمهور فإنها تخاطب هويتهم الوطنية (الجمعية)، وليس فرديتهم التي تختلف من شخص إلى آخر.
الهوية الوطنية "كقيمة"
السؤال: هل كينونة الهوية الوطنية مُعطى طبيعي أم صنعي؟ والجواب، ببساطة، أن ثمّة جانباً طبيعياً منها، وجانباً آخر صنعياً. فهي في جزء منها تحصيل حاصل (نتيجة طبيعية) لتفاعل العلاقات بين مجموعة من البشر، ناجم عن تعايشهم في حيّز جغرافي معيّن لفترة زمنية طويلة. وفي جزء منها يفترض أن هناك عملاً ممنهجاً (صنعياً في المحصّلة) يعمل على نسج المكوّن المنشود منها، ضمن طرق إدراك معينة. وينطبق على حتمية وجود الجزء الطبيعي منها –من الناحية الصورية– القول المعروف "بأن الطبيعة لا تقبل الفراغ". لذلك قد نستطيع أن نطلق عليه "المكوّن الخام" منها. ونعني بالجانب الصنعي هو ذلك المكوّن الذي من الممكن التحكّم به إلى حدٍّ كبير. وهنا يبرز دور التعليم في ذلك.
وإذا توقّفنا قليلاً عند مفهوم "القيمة"، نجد أن هذه الكلمة تستخدم أصلاً على نطاق واسع في الاقتصاد، وشرع باستخدامها للإشارة إلى القيم المعنوية مثل القيم الجمالية في علم الجمال، وهي المتعلّقة بالجمال، والقيم الأخلاقية في علم الأخلاق، والمتعلّقة بالخير، وقيم الحقيقة بالمنطق، المتعلّقة بصحّة القضايا. ويعرّف الفيلسوف الفرنسي "رينيه لوسن" القيمة بأنها: "ما هو جدير بأن يُطْلَب". لهذا تطلق هذه الكلمة على نحو خاص على الصفة التي تجعل أشياء معينة تستحق التقدير.
ولا تكون الهويّة الوطنية فاعلة إلاّ إذا أضحى أصحابها يتذوّقونها ويتوقون إليها، كما يتذوّق بعضنا الفضيلة، أو الخير، أو الجمال. فلكلّ من هذه القيم ذائقة خاصة بها. وهذا عامل نفسي مهم بالنسبة إلى أصحاب هذه الهوية، لأنه مؤشّر على رضا الأغلبية عنها، وأنهم ينعمون بوجودها. وهذا الرضا غالباً نابع من شعورهم من أنهم ليسوا من أتباع أحد، أو تحت تأثيره، إن كان صانعها فرد أو جماعة. فقوّة الهويّة الوطنية تنبع من غياب صانعها. لأنها يجب أن تكون معطىً وطنياً نتيجة عوامل عديدة جغرافية، وتاريخية، وتراكم حضاري، وثقافي... لذلك من أبرز المؤشّرات التي تبيّن نضوج الهوية الوطنية هو أن تؤول إلى "قيمة" بالنسبة لأصحابها. وفي خلاف ذلك لا يمكن أن تكون فاعلة، بل مجرّد مسحة شعورية وسطحية سرعان ما تتلاشى أمام أول اختبار.
ومن القضايا الواجب لحظها في بناء الهويّة الوطنية هي عدم المغالاة في الحديث عن تميّزها، أو تفوّقها على غيرها. فكلّ ما يفضي إلى التعصّب في بنائها مرفوض، لأنّ حصيلته ستكون تدميرها من الداخل. وأن لا تكون عبئاً ثقيلاً على كاهل أصحابها. وأن يكون استحضار التاريخ في بنائها متوازناً، وألّا تتحول جرعته إلى أن يصبح "مسكناً"، أو "تعويضاً" عن إخفاقات الحاضر. أي أن استحضاره يهدف إلى شحذ الهمم، وليس تعويضاً عن نقص أو تقصير في الحاضر.
وتكتنز الهويّة الوطنية قوّة الوطن الحقيقية، وهي أفضل تحصين له. وإذا استعرنا عبارة "لورانس فريدمان" عن الاستراتيجية بأنها "فن خلق القوة"، فإن مفهوم الهوية الوطنية ليس بعيداً عن ذلك، لأنها القوة ذاتها. لأن الهوية الوطنية الجامعة هي البوتقة الوحيدة القادرة على صهر جميع طاقات الشعب على نحو يستطيع الوطن الاستفادة منها. هذا بغضّ النظر عن أن درجة الانتماء إلى الهوية الوطنية ليست، بالضرورة، ذاتها بالنسبة إلى جميع أصحابها.
هذا ويبرز دور الجامعات، على نحو خاص، في بناء الهوية الوطنية بسبب أن الهوية الوطنية المبنية على العفوية والارتجال بعيداً عن الدراسة والتخطيط ليس لها قيمة، لأنها، غالباً، تستبطن كثيراً من أمراض المجتمع. بل لا بدّ أن تكون مدروسة بدقّة وبعناية، ومقبولة تقريباً من الجميع. لذلك يعد بناؤها من أصعب المهام على المستوى الوطني، لأنها تتعلّق ببناء الإنسان، وطرق إدراكه، وموجّهة لعدد كبير من البشر. وهي لا تعني التمسّك الأعمى بالعادات والتقاليد المحلّية، أو مجرّد معرفة عابرة بتاريخ الوطن. إنها أكثر من ذلك بكثير، فهي محتوى، وسلوك، وبناء نفسي، وعقلي، وثقافي. إنها إرادة من نوع خاص، ونبع ثرّ للعطاء الوطني. وهذا يضع على كاهل أساتذة الجامعات مسؤولية أخلاقية (فضلاً عن أنها وطنية) يضطلع بها هؤلاء للقيام بذلك. وهذه المسؤولية أصبحت معروفة أكاديمياً باسم "المسؤولية الخُلقية للعلماء". وهي مسألة ضرورية وملحّة في جامعاتنا. وخاصة أن ثمّة عوزاً مرضياً فيها عند كثير من العاملين العلميين لدينا. وتنبع أهمية تلك المسؤولية من أن معظمنا يفصل، في عمله، بين الشق العلمي والشق الأخلاقي على الرغم من وجوب تحايثهما. أخيراً، يجب التمييز بينها وبين الجنسية. فالإنسان يمكن أن يجمع بين جنسيتين أو أكثر، ولكنه لا يستطيع الجمع بين هويتين. والجنسية رابطة قانونية بين دولة وفرد، ويمكن الحصول عليها وفق شروط معينة تبعاً للبلد، في حين أن الهوية نوع من البصمة.